السياسة الاقتصادية الجديدة
من الممكن تلخيص الاتجاهات الأساسية للسياسة الاقتصادية الهنغارية الجديدة في أنها تعتبر مسألة إصلاح الأسعار إحدى القضايا الأساسية لهذه السياسة، فالأسعار لم تعد تتحدد حسب أهداف السياسة الاقتصادية، بمعنى ليس حسب معطيات الكلفة الداخلية، أو موازنة السعر ارتفاعا أو انخفاضا “حسب أهداف الدولة” تطبيقا للمقولة الاشتراكية بأن للأسعار مضمونا “اجتماعيا واقتصاديا”، وإنما أصبحت أسعار الجزء الأكبر من السلع تتحدد وفقا لمستويات الأسعار الدولية، ولهذا يجري الحديث الآن في هنغاريا عن تطبيق ما يسمى بالأسعار التنافسية، ليس في إطار التصدير والاستيراد وإنما حتى أسعار السلع الداخلية، وهي تعني أن أسعار السلع تتحدد وفقا لتيارات العرض والطلب في السوق الدولية.
وطالما أن الأسعار الدولية تتأثر بتغيرات سعر الصرف ارتفاعا أو انخفاضا، لذلك خرجت هنغاريا منذ عام 1980 عن نظام أسعار الصرف المتعددة، ولجأت إلى تطبيق سعر الصرف الموحد، بمعنى لم يعد هنالك سعر صرف للتصدير يختلف عن الاستيراد، أو يختلف عن سعر الصرف المحدد للسياحة، وإنما هنالك سعر صرف واحد للفورنت الهنغاري، وأن هذا السعر يتغير تبعا لمعدل
التغيرات التي تحصل على أسعار الصرف الدولية للعملات الرئيسية.
كيفية تحديد أسعار السلع
وإذا كانت أسعار السلع تتحدد وفقا لاتجاهات الأسعار الدولية فإن المؤسسات الاقتصادية هي المسؤولة عن مجابهة التغيرات في الأسعار الدولية ارتفاعا أو انخفاضا، بمعنى أن السياسة المالية أصبحت في النظام الجديد تتجنب الأخذ بنظام دعم الأسعار أو الاستثناءات الضريبية بالنسبة لغالبية السلع باستثناء السلع الأساسية، هذا يعني في الوقت ذاته بأن المؤسسة هي المسؤولة عن مجابهة عوامل الكلفة والسعر وليس لها أن تتكل على دعم الدولة.
كذلك فإن النظام الجديد لم يعد يحدد المؤسسة بمجموعة من الضوابط التخطيطية التي تحدد حجم ونمط الإنتاج والتسويق وغير هذه من الأمور التي تحدد نشاط المؤسسة في إطار معين ليس لها أن تخرج عنه، إنما يطلب من المؤسسة أن تحاول تحقيق أهداف عامة ترسمها خطة الاقتصاد الوطني، كتحديد معدل معين من النمو أو التركيز على أفضليات معينة، وفيما عدا ذلك يترك لإدارة المؤسسة رسم كافة الخطوط العامة والخاصة التي توصلها لتلك الأهداف.
طالع أيضا حرب العملات و مظاهرها، وتطورها
بمعنى آخر أن السياسة الجديدة لم تعد تتقيد بنمط التخطيط المعروف في الأنظمة الاشتراكية والذي يعني أن أجهزة التخطيط المركزية بعد أن تراعي رغبات المؤسسات الاقتصادية عن طريق أسلوب المركزية الديمقراطية تنفرد باتخاذ القرارات. حول مجمل نشاطات المؤسسات الاقتصادية، بل إن ما يميز السياسة الاقتصادية الجديدة، أن المؤسسات الاقتصادية هي التي تضع خططها حسب ما تراه ممكنا، ثم تضطلع أجهزة الدولة التخطيطية بهذه الخطة، ومن مجمل هذه الخطط تضع الدولة خطتها العامة.
أي أن دور الدولة- والحال هذه- هو تهيئة الظروف الأساسية التي تساعد المؤسسات على القيام بعملها وليس الموجه المباشر لكافة نشاطات المؤسسات، بمعنى آخر أن نهج التخطيط أصبح يقترب إلى حد بعيد من ذلك النهج الذي تطبقه بعض الدول الرأسمالية المتطورة كاليابان، مع فارق واحد هو أن نهج التخطيط في الدول الرأسمالية يأخذ مجراه بتوسط مؤسسات كالاحتكارات الكبرى وبيوت التجارة والمال، أما هنا فالعلاقة تكاد تكون مباشرة بين المؤسسات والدولة وهي تُنظّم عن طريق الوزارات والمؤسسات النوعية.
ملامح الانعطاف في التجربة الاشتراكية
ومن كل هذا يبدو أن السياسة الهنغارية الاقتصادية الجديدة أصبحت تنطلق إلى حد بعيد من حلقة التبادل في تحديد اتجاهات النشاط الاقتصادي، في حين تنطلق الأنظمة الاشتراكية بمجموعها سواء على المستوى النظري أو التطبيقي من حلقة الإنتاج، أما تفصيلات حلقة التبادل سواء السعر وسعر الصرف والتسويق والخزن والحفظ، فما هي إلا نتيجة لما تتطلبه أو تقتضيه حلقة الإنتاج تطبيقا للمقولة الاشتراكية التي تعتبر الإنتاج هو القاعدة المادية والتكتيكية للاقتصاد الوطني.
وهكذا نلاحظ بأن عنصر السعر في السياسة الاقتصادية الجديدة، لم يعد يتحدد وفقا للعمل الاجتماعي الضروري المبذول في البضاعة وهو الجوهر المميز للنظرية الاشتراكية، إنما هو الآن ينطلق من السعر العالمي، والسعر العالمي أصبح المعيار الذي تتحدد بموجبه أسعار الكثير من السلع سواء في أفق التجارة الخارجية أو التجارة الداخلية، وسعر الصرف لم يعد يتسم بالاستقرار
والثبات انطلاقا مما تعارفت عليه أنظمة احتكار النقد الأجنبي في غالبية الدول الاشتراكية، إنما أصبح يتغير تبعا “للتغيرات
التي تحصل في أسواق العملات الرأسمالية”.
والتخطيط لم يعد هو الأسلوب الذي بموجبه تتحدد كافة النشاطات الاقتصادية وصولا لتحقيق الأهداف الرئيسية للدولة،
إنما أصبح التخطيط مجرد أهداف رئيسية تضعها الدولة بناء على المعلومات التي تصلها من المؤسسات كتحديد معدلات
النمو أو تحديد الأفضليات لنمو القطاعات الاقتصادية، ويترك للمؤسسات الاقتصادية حرية اختيار السبل الملائمة لتحقيق
تلك الأهداف، بمعنى آخر أن الاشتراكية في هنغاريا لا تقوم الآن على عمودين هما ملكية الدولة لوسائل الإنتاج
والتخطيط الاقتصادي للاقتصاد الوطني، إنما تقوم الآن على عمود واحد هو ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، ذلك أن نمط
التخطيط الآن في هنغاريا لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي تطبقه بعض الدول الرأسمالية المتطورة.