أزمة العلاقات الاقتصادية الدولية
وبالمقابل لما شهدته السنوات الأخيرة من انفجار في أزمة التنمية في البلدان النامية وأزمة الكساد التضخمي في الدول الرأسمالية المتطورة، فقد شهد العالم خلال السنوات نفسها توطد السلام العالمي والانفراج الدولي وازدياد مكانة الدول الاشتراكية في الاقتصاد الدولي بعد أن أصبح سكانها يشكلون 33 %من سكان العالم وإنتاجها الصناعي يشكل 40 %من الإنتاج الصناعي العالمي، وفي خضم هذا الوضع العالمي الفريد بدأت العلاقات الاقتصادية الدولية بين الدول الرأسمالية المتطورة والدول النامية تتعرض إلى الانهيار، بعد أن فشلت استراتيجية التنمية الاقتصادية التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة للبلدان النامية خلال العقدين الأخيرين، والتي اعتمدت على أساس أن الارتباط بالسوق الرأسمالية ينبغي أن يستمر كمصدر للتنمية والتطور في البلدان النامية، لأن النمو يتسرب من الدول المتطورة إلى الدول النامية، فقد اكتشفت الدول النامية أن مشاكلها الاقتصادية قد بقيت دون أن تعالج طوال القرن الحالي وأنها بقيت كما كانت تعاني من ويلات الفقر والجهل والحرمان.
بل اكتشفت أن الخلل في العلاقات الاقتصادية الدولية هو العامل الرئيسي وراء تخلفها وعرقلة محاولاتها نحو توسيع
تجارتها الخارجية وتحقيق طموحها في الإسراع بالتصنيع والتنمية.
وعندما توسعت مخاطر أزمة الكساد الاقتصادي سابقة الذكر واستفحلت مخاطرها على الدول النامية من خلال تسرب
ظاهرة التضخم إلى اقتصادياتها، مارست الدول النامية حقها في تصحيح أسعار النفط عبر اتفاق الدول المنتجة للنفط
الأعضاء في منظمة الأوبك، وكان نجاح الدول المنتجة للنفط في فرض إرادتها على الاقتصاد الدولي في تصحيح أسعار النفط الشرارة الأولى التي أثبتت للدول النامية والعالم أجمع أنها تستطيع التحكم في الأسواق الدولية لموادها الأولية وأن تحكم آليات السوق وسيطرة الاحتكارات الإمبريالية لم تعد المؤثر الوحيد في تجارة المواد الأولية.
لقد ظهر من خلال ذلك أن اتحاد الدول النامية ووحدة موقفها جدير بإحداث التغييرات الجذرية ليس في أسعار المواد الأولية فحسب، وإنما في كافة جوانب الاختلال في العلاقات الاقتصادية الدولية التي سوف نأتي على استعراضها فيما بعد.
وهكذا بدأت الدول النامية محاولاتها لإثارة مسألة الخلل في نظام العلاقات الاقتصادية الدولية وما يفزره من آثار خطيرة
على اقتصاديات الدول النامية، وتطلعاتها نحو تغييره باتجاه تكوين علاقات اقتصادية جديدة تعتمد على أساس التكافؤ
والنفع المتبادل لكافة أعضاء الأسرة الدولية.
وإزاء هذه التطورات التي حصلت مؤخرا في أفق الاقتصاد الدولي ظهر الوعي بين أوساط متعددة في الدول المتطورة بأن هذه الصورة القائمة لواقع الدول النامية إنما تشكل تهديدا لمستقبل رخاء الدول المتطورة، لأن مفاتيح رخاء الدول المتطورة موجودة في الدول النامية ولذلك فإن تغير نظام العلاقات الاقتصادية الدولية أمر لا مفر منه إذا كانت الدول المتطورة تطمح في تحقيق المزيد من التطور والازدهار لشعوبها.
وفي خضم هذا الصراع والحوار حول مستقبل الاقتصاد العالمي تبلورت مسألة النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
نشوء مفهوم النظام الاقتصادي العالمي الجديد
بدأ الحوار حول هذا الموضوع على المستوى الرسمي في أيلول 1973 عندما أصدر مؤتمر دول عدم الانحياز في دورته الرابعة قرارا أشار فيه إلى ضرورة السعي لإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد من أجل ضمان السلام العالمي وتحقيق التقدم والعدالة لكافة الأسرة الدولية.
وبعد هذا المؤتمر بشهر واحد اندلعت حرب أكتوبر 1973 وأسفرت هذه الحرب عن القرار التاريخي الذي اتخذته الأقطار العربية بشأن تخفيض إنتاج النفط وحظر تصديره إلى الدول المساندة لإسرائيل وعقب ذلك اتخذت منظمة الأوبك قرارها المشهور برفع أسعار النفط عام 1974.
ومع أن هذه الإجراءات كانت تتعلق بسلعة واحدة هي النفط، لكنها كانت ذات دلالة خطيرة بل نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية الدولية، فقد تأكد ولأول مرة أن الدول النامية تستطيع التحكم بمواردها الاقتصادية كما ظهر من خلال هذه الإجراءات أن مفتاح رخاء الغرب يوجد في الدول النامية والدول النامية تستطيع متى اتفقت أن تهدد هذا الرخاء.
ثم جاءت انتصارات شعوب الهند الصينية لتؤكد على أن استخدام القوة العسكرية لم يعد الأداة الوحيدة لقهر الشعوب بل إن إرادة الشعوب هي التي تنتصر بالأخير.
وعندما حشدت الدول الإمبريالية إمكانياتها للالتفاف على قرارات الأوبك بشأن رفع أسعار النفط، من خلال تأسيسها لوكالة الطاقة بادر الرئيس هواري بومدين باعتباره رئيسا للدورة الرابعة لدول عدم الانحياز إلى دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى عقد دورة خاصة لمناقشة مسألة العلاقة بين المواد الأولية والتنمية الاقتصادية.
طالع أيضا أسس النظام الاقتصادي الدولي الراهن
وبالفعل انعقدت الدورة السادسة في نيسان 1974 وأسفرت عن وثيقتين خطيرتين أولهما الوثيقة رقم 3201 والتي تتضمن إعلان بشأن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد، وثانيهما الوثيقة رقم 3202 التي تضمنت برنامج إقامة ذلك النظام ومما يلفت النظر في هاتين الوثيقتين أن الأولى منهما قد أشارت إلى ضرورة تغيير النظام الاقتصادي الدولي الحالي الذي وضعت ركائزه في فترة الهيمنة الاستعمارية في عصر لم تظهر فيه الدول النامية كدول مستقلة، ذلك لأن هذا النظام عجز عن تحقيق تنمية متكافئة ومتوازنة لكافة دول العالم، بل إن هذا النظام هو الذي ساعد على ازدياد التفاوت بين الدول النامية وبقية دول العالم، كما أشارت هذه الوثيقة إلى ضرورة إقامة نظام اقتصادي دولي جديد يقوم على أساس المساواة والعدل والتكافؤ بين مختلف أعضاء الأسرة الدولية، وتحقيق السيادة الكاملة لكل دولة على مواردها الاقتصادية، وحقها في اختيار النظام الاجتماعي الذي يلائمها ورفض اكتساب الأراضي بالقوة.
أما الوثيقة الثانية فقد أشارت إلى جوانب الخلل في العلاقات الاقتصادية الدولية التي تطرحها الجمعية العامة للأمم المتحدة للحوار في إطار الأسرة الدولية من أجل وضع أسس عادلة للنظام الاقتصادي الدولي الجديد كمشكلة تجارة المواد الأولية وأثرها على التجارة والتنمية، ونظام النقد الدولي ودوره في تمويل التنمية في الدول النامية، والتصنيع، وانتقال التكنولوجيا، والإشراف والرقابة على الشركات المتعددة الجنسية، وميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية، والتعاون بين الدول النامية، ومساعدة الدول النامية في ممارسة سيادتها على مواردها الطبيعية